الثورات العربية و سقوط الإيديولوجيات .
لا يمكن لنا أن نلم بجميع الدروس المستخلصة من الثورات العربية الشبابية الجديدة , نتيجة للخط الذي سلكته , و نتيجة حالة الذهول الشديد الذي أصابنا جميعا , و أصاب الأنظمة معا , حتى الدوائر الاستخباراتية الغربية لم تستطع أن تتنبأ بما وقع في تونس أو مصر . إلا أن النخب السياسية كذلك لم تستوعب الثورات و لم تتوقعها , و صارت تلهث وراء الأحداث بدل التحكم فيها و توجيهها , و قد شمل هذا جميع التيارات الإيديولوجية في الوطن العربي ( الماركسيون , الليبراليون , القوميون , الإسلاميون ) .لقد أدهشت هذه الثورات الجميع , بتنظيمها و وعيها و عقلانيتها , فقد نجحت في ما فشلت فيه هذه النخب طيلة قرن من الزمن . فما السر في ذلك ؟
لقد سيطرت على العالم العربي منذو فترات الاستقلال حكومات تحولت مع الزمن إلى ديكتاتوريات مستبدة و فاسدة , أجهضت جميع مشاريع التنمية في الوطن العربي . فقد رفعت شعارات الحرية و الوحدة , و تحرير فلسطين , و محاربة المستعمر و الرجعية , و أهملت المشاريع التنموية , فلم تحارب الأمية و الجهل المسيطرين على الشعوب و لم تهتم لا بالصحة ولا بالتعليم ولا بالزراعة .. لقد فشلت جميع الخطط الخمسية و تحولت إلى عشرية أو عشرينية دون جدوى .و مع ذلك لم تحقق هذه الحكومات ما رفعته من شعارات .
في خضم ذلك ظهرت تيارات سياسية و إيديولوجية معارضة لهذه الحكومات تحاول تقديم حلول لما تعاني منه هذه الشعوب و لكن إعتمادا على رؤى إيديولوجية مختلفة و في الغالب انطلاقا من رؤية أو تجربة سابقة تحاول تطبيقها على هذه الشعوب . و ظلت هذه التيارات بعيدة عن الواقع الذي تحاول تغييره و لم تستطع أن تعبر عن آمال و آلام شعوبها . فلم تستطع أن تقدم بديلا موثوقا به لهذه الأحكام التي زاوجت بين الإستبداد و الفساد و خداع شعوبها و اللعب بآماله و تقديم الوعود الكاذبة له فترة بعد أخرى .
و عندمالم تعد الشعوب قادرة على إحتمال ما تتعرض له من إهانة و قمع و سرقة خيراتها , انبرت مجموعة من الشباب الوطني الواعي , فقامت بثورات في عدة بلدان عربية , نجحت في بعضها و مازات تحارب في البعض الآخر , تلك هي ما يصطلح عليها بثورات الفيس بوك و تويتر .
لقد لعبت الاتصالات و التقنيات الجديدة دورا مهما في هذه الثورات , و لكنها ليست هي الاساس فيها , فالفيس بوك لم تخرج إلى الشارع و تتسور بصدور عارية أمام دبابات و مدرعات الأنظمة , و فيس بوك لم تتحمل البرد القارس و المطر في الشارع .. بل هو الشباب العربي البطل الذي لم يهتم يوما بالسياسة و لم ينتم لأي حزب أو تنظيم , بل كان اهتمامه منصبا على الفن و الكرة أكثر من السياسة , و مع ذلك عندما ثار أعطى الجميع دروسا جديدة في الثورة , فنجح حيث فشل السياسيون و المثقفون , و أدار ثورته بطريقة جيدة مكنته من تحقيق أكثر من ما خرج إلى الشارع من أجله. لقد استطاع الشباب ان يرفعوا شعارات بسيطة , و قابلة للتحقق و يتفق عليها الجميع , و لم تكن سياسية و لا إيديولوجية , بل إن ما ميز ثورة الشباب هي أنهم كانوا بعيدين عن التيارات السياسية و لم يقبلوا تدخل هذه التيارات أو توجيهها أو محاولة ركوبها لثوراتهم , حتى بدت هذه التيارات في نفس الخانة مع الانظمة , فلم تستطع رغم كل محاولاتها القفز على مطالب الشباب أو التأثير فيها , بل أصبحت تابعة لموجة التغيير الجديد و منها من حاول يائسا مسايرة هذة الثورات , و مع ذلك لم تستطع النخب السياسية قيادة المد الثوري الجديد , ولم تقم بالدور الريادي الذي كان عليها أن تقوم به .
أصبحت التيارات السياسية و الحكومات في خانة واحدة , و ذلك نتيجة ابتعادها عن الشباب و عدم اهتمامها بمشاكله و آرائه و عدم فهمها لآليات الخطاب السياسي الجديد , و التي تقوم على معرفة التقنيات الجديدة , و مسايرة التقدم الحاصل فيها , وتطوير الخطاب الإيديولوجي لهذه التيارات السياسية حتى يلامس المشاكل المعيشية للمواطن و حتى يهتم بآمال هذا الشباب و آلامه و يعبر عنها .
فعلى الحكومات حيث كانت أن تعرف أنها ليست بمنأى عن ثورات الكرامة و الحرية , ما دامت تمارسة المسلكيات القديمة من فساد و ظلم و كبت الحريات , فهذا لم يعد ممكنا في تاريخنا الحديث و لم تعد الشعوب مستعدة للسكوت على الضيم و الفساد , فمن لم يتغير سيجرفه التيار إن عاجلا أم آجلا .
و على التيارات السياسية التي كانت تنشط في الساحة أن تغير خطابها و تحاول مسايرة الركب بتبينيها لخطاب جديد , يتجنب الخطاب الإيديولوجي النظري , و يتجنب الشعارات البراقة .. فيعبر عن مشاكل المواطن البسيط , و عن همه اليومي , فيكافح الفساد المستشري في الأنظمة , و القبضة الحديدية التي تدار بها الشعوب , و كل المسلكيات البائدة . فإن لم تساير المد الثوري فإنها ستكون مثل الأنظمة التي لم تستفد من ما وقع قريبا منها .
إن جميع الخطابات الإيديولوجية التي تنشط في العالم العربي دون استثناء لم تستطع أن تتحكم في المد الثوري الجديد , و ذلك لأنها كانت بعيدة عن هموم المواطن البسيط التي تقض مضجعه , و كانت تنشغل بنقاشات طوباوية بعيدة عن فهم هذا المواطن , و لذلك عندما ثار لم يعلق عليها أي أمل ’ لأنها أخفقت دوما في تقديم بديل جدي لهذه الأنظمة , بل عانت مما تعاني منه هذه الانظمة , فاصبحت الوجه الثاني لنفس العملة .